الجزء الثاني – رحلة في عالمٍ مجهول كان وقع هذه الكلمات كدلو ماء بارد أصاب بدني، بدأت أفهم أنني أصبحت في عالم آخر أصغيت قليلاً، أصبحت أصواتهم تتلاشى مجرد تمتمات شفاه!! أمعنت نظراً بوجوههم، بدت أشكالهم يملأها التشويش، لم أعد أستطيع أن أميز الملامح بدقة، هل هم فعلاً من يختفون أم أنني أنا من يفقد حواسه تماماً؟ وجدت نفسي ابتعد رويداً رويداً، ثم وجدت الدنيا من حولي وقد بدأت تنطوي كما قطعة الملابس ليحل مكانها لونين فقط "أسود وأبيض" لم أكن لأراهما ولكن استشعرتهما وليس عندي إحساس إنما من خلال ومضات من حولي! أردت أن أبكي ولكن ليس عندي دموع! ولا حتى عيون! ما أنا إذا؟ أنها "خطرات الروح" لست أشعر شيئاً ولكنني أدرك أنني قد مُت الآن فإلى أين سأمضي؟ فجأة، هبّت نفحاتٌ قوية فالتفّتْ حول روحي وغلّفتها ثم جذبتها بقوة، لم أستطع مقاومتها، وجدتها تجذبني وكأنها تريدني أن أسلك في مسار آخر، كان السطوع جميلاً حولي لم أكن أراه، لكنني كنت أدركه من خلال الوميض، إلى أن بدأت روحي تضيق فبدأت أدرك أنني أسير في درب حالك أسود موحش ملأ ما بقي مني بالرهبة!! من هذه الروح التي جذبتي؟ أردت أن أتواصل معها أن أطلب منها أن تدعني وشأني ولكن كيف سأتكلم؟ كيف سأرى؟ كيف سأسمع؟ لم أعد امتلك حواسي فقدتها حين كنت في حضن أمي في آخر اللحظات قبل أن تنطوي تلك الدنيا أمامي، حين أردتها أن تشعر بي، كنت أصرخ أبكي وأنادي : "أمي ..يا أمي"، أمسكها بطرف ثوبها... أهزها، لم تكن تشعر بي حتى أيقنت أنني لست أكثر من غبار متناثر بقربها، والآن هناك قوى تجذبني ولا أملك السيطرة على مساري لا أعرف إن كان هذا الشيء يدعى خوفاً فأنا أدركت أنني فقدت إحساسي إلا أنه يشبه الخوف كثيراً، كونه المجهول الذي لا نعرفه ونمضي إليه! للحظات فقدت حتى إدراكي وبت كما هي الأشياء، ذرات تطير تحركها الرياح، ثم عدت وتماسكت كنت أرجو أن أعود لدرب الضياء، بدأت أحاول التخلص من تلك القوى الغامضة التي تدفعني معها، لم أستطع كنت كما لو أنني قطرة ماء يدفعها سيلٌ متدفق فتصطدم بكل شيء أمامها. فجأة، كما لو أن يداً جذبتني بقوة بعيداً، انعتقت روحي وعادت ترتاح من جديد، تلاقت بروح أخرى كانت تعرفني، تلتف حولي وتدور كأنما ترحب بي، كم هذا مريح، وخلال لحظات تواصلنا معاً فأدركت أن تلك الروح هي روح ابنة خالتي "هبة" التي ماتت منذ سنتين بداء السرطان ولم تبلغ الثالثة عشرة من عمرها كنا نلعب سوياً بالدمى ونأكل معاً من نفس الصحن، كم هو رائع أن نلتقي بعد سنتين في عالم آخر ومن دون موعد، بدأنا نلتف حول بعضنا ونحن نسير بمجال مريح، كانت روح هبة متوثبة تريدني أنا اذهب معها لمكان جميل بدأت أشعر بضوء عظيم وأشياء رائعة بألوان أبهى من تلك التي كنت أعرفها في حياتي، بريق خلاب، بدأت أرى لأول مرة ولكنني كنت فقط أرى الجمال الذي لا يمكن وصفه، وأنا سعيد لم أشعر للحظات أنني مشتاق للدنيا، تناهى لمسمعي صدى ضحكات أطفال، رأيت أطيافاً يفيض منها النور ويتساقط منها ما يشبه اللؤلؤ الأبيض اللماع تقفز ثم تضحك وتناديني بلغة غريبة غريبة لكنها مفهومة كأنها ألحان الغبطة والسرور، فغمرني شعور أعظم من الفرح، كم هو جميل هذا المكان كل ما فيه مبهر وكم أنا سعيد لأنني استعدت أحاسيسي كي أرى فقط الجمال وأشعر فقط بالفرح، ركضت فوجدت نفسي أقفر وأطير يجذبني أحدهم هنا فندور ونضحك ليس كالضحكات العادية بل ضحكات تملء كل أرواحنا نشوة، وجدت بالقرب مني ما يشبه الحصان الذهبي لكنه برأس غزال رائع الجمال، ركضت أمتطيه فوجدته يسرع بكل قواه كما لو أنه يدفعني... يجذبني... يسحبني... أحسست بأنني أفقد أحاسيسي من جديد. بدأ النور يبهر بصري إلى أن أطفاه تماماً وعاد الظلام، أحسست ببرد شديد قبل أن أتجلد وأفقد بعدها مشاعري كلها لم أعد أسمع شيئاً، ماذا دهاني؟ ماذا يجري لي؟ عادت تلك القوى الغريبة تلتف حول روحي، اعتقيني ... دعيني... أرجوكي ابتعدي عني، لا أستطيع أن أقول ذلك، أين "هبة" لتساعدني؟ ارحموني بدأت انجذب بقوة للأسفل، وعادت الرهبة من المجهول تسري داخل روحي. فجأة، أحسست بيد تجذبني من كتفي وتضعني على صدرها!! عادت لي أحاسيسي ... فتحت عيني قليلاً رأيت أشباحاً تتحرك من حولي، أغمضتها ثم أعدت فتحها أكثر من ذي قبل بقليل فرأيتهم يقتربون من رأسي كأنهم صاروا فوقي، أشباح غريبة، أغمضت عيني مرة أخرى وفتحتهما أكثر من جديد فرأيت أمي تناديني باسمي، وسمعتها تقول : الحمد لله .. الحمد لله، كان رأسي على صدرها وأبي وأخي وعمي وجدي من حولي الجميع كانوا سعداء جداً يشكرون الرب ويدعون ويصلون!! لم أفهم شيئاً! فأغمضت عيني من جديد .. ولم أشعر أو أرى بعدها أي شيء. في صباح اليوم التالي، كانت أمي بقربي تمسك يدي وتبتسم وفي عيونها بعض الدموع .. دموع الفرح، ابتسمت لها وقلت : أين أنا؟ ماذا حصل؟ فأخبرتني : يا حبيبي الصغير أنت في المستشفى لقد تعرضت لحادث سير أثناء قطعك للطريق وأنت عائد من المدرسة إلى البيت، فأسعفناك كنت تنزف كثيراً وكان قلبي يدمي أكثر، لقد دخلت يا عمري في غيبوبة، ولم أنقطع عن الصلوات والأدعية منذ دخولك هنا كنت أسهر قربك وأنا أنظر إلى عينيك وأدعو الله سبحانه وتعالى أن تفتحهما وتطمئن قلبي الجريح على سلامتك والحمد لله أكرمني بعودتك . قلت لها : أمي لكنني استيقظت هذا الصباح في غرفتي ومضيت نحو النافذة وفتحتها ثم... لم أكمل جملتي حتى وجدتها تضغط يدي بحنان ودموعها تتساقط وقالت يا حبيبي أي صباح هذا؟ لقد مضى على وجودك هنا ثلاثة أيام، وتحديداً بعد ست ساعات بالضبط أي عند الظهيرة وقت انصراف التلاميذ ستكمل يومك الرابع، ربما كنت تحلم يا حبيبي وابتسمت لي ودموعها تسيل على خديها. التفتُ نحو النافذة وتخيلت العالم الذي رأيته أثناء كوني في الغيبوبة وتساءلت في نفسي : كم يبعد خلف حدود هذه السماء البعيدة؟؟!! إن أخبرتهم عنه هل سيصدقونني؟ أم سيعتقدونها هلوسات طفل خياله أقوى من منطقه! مرت أيام واستعدت عافيتي وخرجت من المستشفى كان أبي في طريق العودة إلى المنزل فقلت له : أبي عندي طلب صغير. فأجابني : اطلب يا ولدي كل ما تريد. قلت له أريد أن تشتري لي باقة من الورود لأنني أرغب بزيارة ضريح ابنة خالتي "هبة" والصلاة والدعاء لها بالمغفرة والرحمة. استغرب الجميع طلبي، فابتسموا بالمواقفة وهز أبي رأسه وقال : قريباً جداً إن شاء الله. لقد علمتني هذه التجربة برغم صغر سني أن الحياة مرحلة من العمر لا أكثر وأن رحلة السقوط للسماء يجب أن تذكرنا بموتانا لنترحم عليهم دوماً داعين لهم بالمغفرة، وأن نحب من حولنا بقوة لأننا لا نعلم متى نغادرهم فجأة، فلنترك في نفوسهم ونفوسنا عزاءً حقيقياً بأننا غادرناهم بكل الرضا والمحبة. فتحت نافذة السيارة متوقعاً هبوب النسيم الصباحي البارد. ولكن ... لم يشعر وجهي بهبوب النسيم الصباحي البارد ... لا بل أكثر وشممت رائحته أيضاً ... ووجدت النهار في أول ساعاته ... ها هي الشمس ... والعصافير ... ها هم البشر ... وأصوات الحياة تضج في كل مكان وتنبض في زوايا المدينة ... نظرت مرة آخرى للسماء ... ثم ابتسمت لهم "إن كانوا فعلاً هناك"! |
0 التعليقات:
إرسال تعليق